حين يكون المؤرخ جزءا من هوية فلسطين.. عارف العارف نموذجا
نبيل السهلي: كاتب فلسطيني مقيم في هولندا
رغم مرور أكثر من ثلاثة وسبعين عاماً على النكبة الفلسطينية الكبرى وإنشاء دولة الاحتلال الصهيوني، على القسم الأكبر من مساحة فلسطين التاريخية، مازلنا بحاجة ماسة لتأريخ وتوثيق أهم مرحلة مرّ بها الشعب الفلسطيني؛ بغرض الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية وتثبيتها ونقلها للأجيال الفلسطينية، سواء عبر استكمال من عايشوا النكبة الكبرى وتداعيات المجازر الصهيونية المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني؛ عبر نبش وتسجيل وتوثيق ذاكرتهم بتفاصيلها الدقيقة قبل النسيان، جنباً إلى جنب مع استحضار من شاهد النكبة وأرخّ لها بنفسه وبدراية ووعي سياسي في ذات الوقت، كالصحفي والمؤرخ المقدسي الراحل عارف العارف.
سيرته الكفاحية
يعتبر المؤرخون أن الهوية الفلسطينية بدأت بالتشكل منذ زمن بعيد، لكن الوعي بالتمسك بها والحفاظ عليها كان ضرورة ملحة للشعب الفلسطيني منذ بدايات القرن العشرين مع ظهورالحركة الصهيونية ورفعها شعارات لإقامة وطن ليهود العالم في فلسطين بعد طرد غالبية شعبها، وكان لها ذلك في أيار (مايو) 1948؛ من خلال الدعم البريطاني والغربي.
ومنذ نشأتها قبل ثلاثة وسبعين عاماً (1948 ـ 2021)، تسعى إسرائيل على طمس الوجود الفلسطيني عبر تهويد الزمان والمكان في مناحي فلسطين التاريخية، الأمر الذي كان ربما من أهم الأسباب التي عززت الإحساس بضرورة تعزيز الهوية الفلسطينية، عبر استحضار تاريخ الشعب الفلسطيني في وطنه والمراحل التي مرّ بها.
وفي هذا السياق نستحضر سيرة المؤرخ الفلسطيني عارف العارف وبحوثه.
يعتبر الراحل عارف العارف من أهم المؤرخين للنكبة الفلسطينية عام 1948؛ وقد ولد في مدينة القدس عام 1891، وتوفي في الثلاثين من تموز / يوليو 1973. كان صحفيا ومؤلفا ومؤرخا وسياسيا فلسطينيا. درس في إسطنبول وانضم إلى المنتدى الأدبي حتى التحق بالجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى. فتم أسره وقضى ثلاث سنوات في سجن روسي في سيبيريا، حيث هرب من هناك بعد الثورة الروسية وعاد إلى فلسطين، ليحرر العارف أول صحيفة وطنية فلسطينية نشرت بعد الحرب العالمية الأولى وهي جريدة سوريا الجنوبية التي بدأت في الصدور في القدس منذ عام 1919.
طرح العارف وصفحات الجريدة توجها بمواجهة عسكرية ولكن ليس عنيفة أو دموية ضد الصهيونية، وخليط من توجهات سياسية لوحدة بلاد الشام، ووحدة عربية ووطنية فلسطينية. اعتقله الإنجليز بعد مواجهات مع الجيش المحتل لفلسطين خلال عام 1920؛ حيث ألقى في الرابع من نيسان/ أبريل 1920، عارف العارف، إضافة إلى الحاج أمين الحسيني وعمر الصالح البرغوثي، خطبة في مهرجان شعبي شارك فيه الآلاف في أول أيام موسم النبي موسى في القدس، وما لبث هذا المهرجان أن تحوّل إلى صدامات عنيفة بين العرب واليهود، سقط فيها عدد كبير من القتلى والجرحى من الطرفين. وحمّلت السلطات البريطانية خطباء المهرجان مسؤولية التحريض على العنف، وحاولت اعتقالهم، بيد أن الحسيني والعارف أفلتا من قبضتها ونجحا في اللجوء إلى شرق الأردن ومنه إلى دمشق. وحكمت المحكمة غيابياً عليهما بالسجن عشرة أعوام.
واستطاع الفرار إلى سوريا بعد ذلك ورفيق دربه الحاج أمين الحسيني. وحكم عليه غيابيا بعشر سنوات بتهمة التحريض على أعمال العنف. تم إغلاق جريدة سوريا الجنوبية على يد الإنجليز عام 1920. عاد العارف إلى فلسطين عام 1929، حيث أصبح قائم مقام تحت الانتداب البريطاني بين عامي 1933 و1948؛ ليصبح بعد النكبة الفلسطينية رئيساً لبلدية القدس بين العامين 1950 و1955، وفي عام 1963 تمّ تعيين العارف مديرا لمتحف “روكفيلير” في القدس.
باكورة بحوثه
تعتبر موسوعة نكبة فلسطين والفردوس المفقود من أهم بحوث المؤرخ الراحل عارف العارف؛ حيث تتألف من ستة مجلدات، تطرق المُجلد الأول إلى ما جرى في فلسطين من اليوم الذي صدر فيه قرار التقسيم 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 إلى اليوم الذي انتهى فيه الانتداب البريطاني وانسحاب الجيش البريطاني من فلسطين؛ أما المجلد الثاني فقد أرخّ للفترة مابين دخول الجيوش العربية في 15 أيار/ مايو 1948 إلى أول يوم بدأت فيه الهدنة في 11 حزيران/ يونيو 1948؛ في حين تصدى المُجلد الثالث لأخبار المعارك التي جرت بعد الهدنة الأولى وما جرى في غضونها حتى استئناف القتال في 9 تموز/ يوليو 1948 وما قبل بداية الهدنة الثانية، في حين تطرق في المُجلد الرابع لمعارك النقب ومؤتمر أريحا، إضافة إلى اتفاقيات الهدنة في رودوس، وصولاً إلى رصده والخسائر بالأرواح والأملاك، وفي المُجلد الخامس إطلالة على نص قرار التقسيم؛ مؤتمر بلودان ونص الهدنة بين العرب وإسرائيل، وقضية اللاجئين.
وكان المُجلد السادس والأخير عبارة عن سجل الخلود، سجل خلاله شهداء النكبة من الفلسطينيين، ومن العرب والأجانب الذين ضحوا بأرواحهم لفلسطين وشعبها خلال الفترة (1947 ـ 1952)؛ واحتوى السجل معطيات وإحصاءات؛ وأورد المؤرخ العارف معطيات إحصائية حول شهداء معركة عام 1948، وكانت على النحو التالي: (494) شهداء من جيش الإنقاذ، وقد استشهدوا في قريتي الزراعة والشجرة، وثمة (200) من الشهداء المصريين المتطوعين، وأكثرهم من الإخوان المسلمين، فضلاً عن (200) شهيد من الأردن، وقد جاء بعضهم مع حزب الإخوان وبعضهم مستقلاً، كما سقط (204) الشهداء من السوريين المتطوعين، في حين استشهد (200) من المتطوعين العراقيين، واستشهد (105) من المتطوعين السعوديين، و(150) شهيد متطوع من لبنان، و(200) شهيد من الدول العربية الأخرى، منهم: (21) يمنيون، (15) ليبيون، (12) مغاربة، (40) شهيداً من المسلمين اليوغسلاف والأتراك والألبان ، في حين سقط (13000) الف شهيد فلسطيني .
وإضافة إلى موسوعة النكبة؛ ترك المؤرخ الراحل عارف العارف إرثاً بحثياً تاريخياً كبيراً حول فلسطين بجنباتها المختلفة، ومنها “بئر السبع وقبائلها”، “المفصل في تاريخ القدس”، “تاريخ الحرم القدسي”، “تاريخ غزة”، “القضاء بين البدو”، “المسيحية في القدس”، “الموجز في تاريخ عسقلان”، فضلاً عن كثير من المؤلفات والترجمات.
تحتم الضرورة نشر الموسوعات والبحوث حول فلسطين لتصل الى الشباب الفلسطيني والعربي والمسلم، وكذلك المناصرين للقضية الفلسطينية بشكل واسع وسريع ؛ بغرض الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية؛ في وقت تحاول إسرائيل طمسها حتى تسود الرواية الصهيونية المزيفة حول فلسطين بأنها أرض قفراء.
وقد يكون من باب أولى نشر بحوث المؤرخ الراحل عارف العارفح كموسوعتة “النكبة والفردوس المفقود”، لدحض زيف الرواية الصهيونية؛ بعد أن أصبح هؤلاء الشباب صنّاع “السلطة الخامسة” وامتلاك ناصيتها بجدارة، أي “السوشيل ميديا”، والتي أرعبت المحتل الصهيوني وخاصة مع انطلاقة هبة الأقصى الرمضانية المستمرة بمفاعيلها المختلفة، والتي كشفت حقيقية عنصرية وفاشية دولة الاحتلال الصهيوني؛ بالصوت والصورة وبلغات عديدة ومتقنة.
المصدر: العربي 21