كريمة عبود.. وثقت بالصورة جغرافية فلسطين وهويتها الحقيقية
نبيل السهلي: كاتب فلسطيني مقيم في هولندا
تتمتع فلسطين بمساحتها البالغة (27009) كيلومتر مربع، بعراقة ومكانة دينية كبيرة، إلى جانب ذلك فهي من أجمل الدول العربية. وتتميز فلسطين بتضاريسها المتنوعة، التي تؤثر بشكل واضح على حالة المناخ والحيوانات والنباتات بها، فهي تمتلك نظاما بيئيا رائعا من سهول، سواحل، جبال وصحراء.
هذا ما سجلته الراحلة كريمة عبود التي وثقت بالكاميرا مدن وقرى فلسطين وطبيعتها الغنّاء وشوارعها العتيقة، ونشاط أهلها في كافة المجالات، فضلاً عن تصوير وجوه الكثيرين من أصحاب الأرض الفلسطينيين؛ لتؤكد هويتها التي حاول الاحتلال على الدوام نسفها .
سيرتها الطويلة مع الكاميرا
ولدت كريمة عبود في يوم 18 تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1896، في مدينة الناصرة عاصمة الجليل الفلسطيني، لعائلة تنحدر من أصول لبنانية، كانت قد نزحت منتصف القرن التاسع عشر بلدة “الخيام الجنوبية” إلى فلسطين. والدها هو القس المسيحي “سعيد عبود”، الذي عمل بعدة وظائف مختلفة، من بينها عمله كمدرس في إحدى المدارس الإنجليزية وقت الانتداب البريطاني.
وفي الناصرة تعلمت المراحل الأولية، وفي القدس المراحل الثانوية، والأكاديمية في بيت لحم مولد السيد المسيح، بينما تعلمت كريمة عبود حرفة التصوير لدى أحد المصورين الأرمن في القدس، وشرعت في ممارسة المهنة منذ عام 1913. وكان والدها أهداها آلة تصوير فتعلقت بها وراحت تلتقط الصور للمدن والأماكن الطبيعية والمعالم التاريخية، ولأبناء عائلتها والأصدقاء. ثم افتتحت استوديو لتصوير النساء في بيت لحم، وكان من شأن هذا الاستوديو أن أتاح للعائلات المحافظة تصوير النساء بلا حرج.
ثم افتتحت مشغلاً لتلوين الصور وإكسابها لمعاناً وبريقاً، وفي تلك الأثناء كانت تلتقط الصور المختلفة للمدن الفلسطينية الخمس: بيت لحم وطبرية والناصرة وحيفا وقيسارية. وانتشرت صورها بالتدريج في منازل العائلات المترفة في دمشق وفي مدينة السلط الأردنية وبيروت ومنطقة الشويفات اللبنانية. وأمكن العثور على مجموعة ثانية لها تعود إلى سنة 1913، وهي تتألف من صور التقطت داخل الاستوديو لنساء بأزيائهن الجميلة الدالة عن هوية فلسطين وشعبها. وكان لكريمة عبود دور كبير في تلك المهنة التي كانت دخيلة على المجتمع العربي الشرقي، خاصة أن الكثير من العائلات المحافظة لم تكن تقبل بأن تظهر على عدسات هذا الاختراع الغريب باستثناء بعض العائلات العريقة التي كانت تتبناها بالتصوير الجماعي وهو ما تثبته الصور القديمة لبعض عائلات القدس ويافا وحيفا وحتى غزة في أيام الاحتلال البريطاني لفلسطين.
إرثها الفوتوغرافي للحفاظ على الهوية
توفيت كريمة عبود خلال العام 1940 ودفنت في مدينة بيت لحم الفلسطينية، تاركة إرثاً كبيراً من مئات الصور الفوتوغرافية المختلفة الزاخمة والدالة على هوية فلسطين وشعبها، وتؤرخ من خلاله لمرحلة هامة في تاريخ الشعب الفلسطيني، إلا أن أرشيفها الفوتوغرافي اختفى لعقود طويلة من الزمن، وظل الحال على ما هو عليه حتى العام 2006، عندما تم الإعلان عن وجود عدد من ألبوماتها وصورها التي وثقت خلالها لطبيعة فلسطين ومدنها وتضاريسها، لدى جامع تحف ليس فلسطينياً يعيش في القدس.
وبقيت هذه الألبومات التاريخية النادرة، التي توثق الحياة في فلسطين خلال تلك المرحلة في حوزة جامع التحف هذا، الذي كان يرفض تماماً التخلي عنها. وبعد ذلك استطاع الباحث أحمد مروات من مدينة الناصرة الحصول عليها، لتبقى بعهدته حتى نشرها عام 2013؛ في كتاب تعاون فيه مع الدكتور متري الراهب والدكتور عصام نصار، بعنوان “كريمة عبود: رائدة التصوير النسوي في فلسطين” عن دار ديار للنشر في بيت لحم.
وقد ضم الكتاب عدة دراسات منها دراسة الدكتور عصام نصار حول بدايات التصوير المحلي في فلسطين من وحي كريمة عبود بالإنجليزية وترجمته إلى العربية السيدة “أليزا أجازريان”؛ ثمة دراسة ثانية كانت للباحث أحمد مروات حول قصة اكتشاف أول مصورة فوتوغرافية وجذور المصورة كريمة عبود، وجمع أربعة ألبومات من الصور المذيلة بخاتمها وكانت تضم صور خمس مدن فلسطينية؛ هي، بيت لحم ومعالمها كقبة راحيل وطبريا وشواطئها وأسواقها وكنائسها وجوامعها والناصرة وحيفا التي قال عنها الشاعر الفلسطيني الراحل حسن البحيري بأنها مدينة الجمال والظلال.
أما الدراسة الثالثة لمتري الراهب فكانت بعنوان “كريمة عبود، المرأة خلف العدسة”، حيث أشار لجذور عائلة عبود، أما الجزء الثاني من الكتاب، فقد ضم مجموعة صور من ألبومات كريمة عبود، حيث ضم ست وثمانين صورة شخصية، إضافة إلى اثنتين وعشرين صورة لأطفال وثمانية صور لقسيسين ورهبان، وكذلك إحدى وخمسين صورة نسائية وعائلية ،وخمس صور تراثية بالزي الشعبي الفلسطيني والأدوات التراثية كدلال القهوة السادة والهاون والحُلي والمجوهرات الفضية وغطاء الرأس التلحمية والناصرية؛ فضلاً عن ثلاث صور لمناظر طبيعية من بنايات، أسواق في مدينة الناصرة عاصمة الجليل الفلسطيني، ناهيك عن خمس صور عائلية جماعية؛ وبطبيعة الحال فإن كافة الصور التي التقطتها الراحلة المصورة كريمة عبود إنما هي وثائق جغرافية وتاريخية حول فلسطين وشعبها لمواجهة زيف الرواية الصهيونية ودحضها؛ وهنا تحتم الضرورة إعادة نشر ألبومات الراحلة بشكل واسع وفي كافة المحافل، بحيث تذيل كل صورة بلغة معينة تشرح معناها وتاريخها المتجذر .
المصدر: العربي 21